الثلاثاء، 26 مارس 2013

الولي الصالح الشيخ اسيدي عبد القادر بن محمد رضي لله عنه


بسم الله الرحمن الرحيم
إطلالة على ملامح من شخصية
العلامة الولي الصالح القطب الشيخ اسيدي عبد القادر بن محمد رضي لله عنه

للباحث الأستاذ مقدم الطريقة الشيخية بمدينة فاس السيد أحمد المهاجر هو البركة العالم الفقيه المحدث الصوفي الولي الصالح القطب الغوث الأديب مفتي الديار المغربية، محيي الدين شيخ الطريقة وامام أهل الحقيقة الشيخ المجاهد سيدي عبد القادر ابن محمد بن سليمان بن أبي سماحة، المكنى "أبا محمد " المعروف ب "السماحي" الشهير عند الخاصة والعامة ب" سيدي الشيخ" رضي الله عنه


 نسبــــهيرتفع نسبه رضي الله عنه من جهة أبيه إلى الدوحة الصديقية والأرومة العتيقية؛ من نسل الصحابي الجليل سيدي عبد الرحمن بن شيخ الصحابة وسيد المؤمنين، ثاني اثنين وخليفة رسول رب العالمين، سيدنا أبي بكر الصديق التيمي القرشي رضي الله عنه الذي يلتقي نسبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في الجد السادس: ( مرة بن كعب). قال ابن الوردي في الانتساب إلى هذا البيت العريق الحسيب
غير أني أحمد الله علــــــــــى  * ** أن نسبي بأبي بكر اتصل
ومن جهة أمه يرتفع نسبه إلى الدوحة النبوية الشريفة، إذ والدته هي السيدة
شفايرية بنت الشريف سيدي علي بن سعيد من الشرفاء الوداغير الأدارسة. ذكر نسبته هذه إلى البيت النبوي الشريف الأستاذ الشيخ أبو بكر حمزة في
Un Soufi Sidi Cheikh,الجزء الأول من الكتاب
Les Grandes familles du Maroc,وصاحب كتاب
وأبي محلي في "المهراس"، حيث أشار إلى أنه من نسل فاطمة الزهراء رضي الله عنها

 وأثبت ذلك الشاعر بقوله
وأمه  لآل البيت تنسب *** نجل سعيدهم علي إذ تحسب

والدليل على ثبوت الشرف من جهة الأم ما أخرجه الجلال السيوطي في جامعه من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع قول شاعر الجاهلية
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد
قال :" قاتل الله شاعرهم ابن أخت القوم منهم
والمفتى به في مذهب المالكية بثبوت الشرف ولو من جهة الأم، وهو الذي أفتى به شيخ الحنفية الشيخ حسن الشرنبلالي، أورد هذا  الشيخ العلامة إبراهيم العبيدي المالكي في كتابه :" عمدة التحقيق في بشائر آل الصديق،) وقال: وهو لنا دليل في شرف الولد لأمه

 
  مولده ونشأته ورحلاته في طلب العلم

ولد الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد رضي الله عنه بالشلالة الظهرانية عام940  هجرية،. ظهرت عليه الكرامات وخوارق العادات منذ ولادته يحكى مرة أن الشيخ سيدي أحمد بن يوسف الملياني رحمه الله نظر ذات يوم إلى تلميذه أنذاك سيدي سليمان بن بوسماحة وقال له :" سيخرج منك نور ويخرج من هذا النور نور آخر يملأ الدنيا كلها." فكان النور الأول هو والده الولي الصالح سيدي محمد بن سليمان، أما النور الذي ملأ الدنيا كلها هو صاحب الترجمة رحمه الله. أنظر كتاب الطريقة الشيخية في ميزان السنة لمؤلفها الأستاذ أحمد بن عثمان حاكمي حفظه الله
  ، كما اشتهر بتوقد الذكاء، وحضور البديهة، وحدة الخاطر منذ طفولته، إذ بدا عليه منذ ذلك الحين ميل كبير نحو الدراسات الإسلامية ونبوغ خاص في علوم الشريعة، ولقي تشجيعات كبيرة في هذا الاتجاه من طرف عدة شيوخ محليين. وحفظ القرآن الكريم واستظهره صغيرا على يد والده الفقيه العلامة الولي الصالح سيدي محمد بن سليمان بن أبي سماحة، وتتلمذ على الشيخ العلامة سيدي عبد الجبار من قصر الشلالة، وانتفع بجده العلامة العارف بالله الشيخ سيدي سليمان بن أبي سماحة، كما صحب والده إلى شيخه العلامة سيدي محمد بن عبد الجبار بفجيج، وهناك أخذ عن أخواله الشرفاء الوداغير حيث ولج زاوية بني العز السكونية النيرة، ونشأ بها طالب علم إلى أن تخرج منها على يد عميدها الفقيه العلامة الأديب الصوفي الشيخ سيدي عبد الرحمن بن أبي بكر السكوني الودغيري في معقول العلم ومنقوله. ثم جال في عدة مناطق من صحراء المغرب الكبير آنذاك كعين ماضي وكورارة وتوات وسجلماسة، فأخذ عن الفقيه النحوي الأديب الشيخ أبي عبد الله سيدي محمد بن مشرف الراشدي، والعلامة الشيخ أبي القاسم ين محمد بن عبد الجبار، والإمام العلامة الأديب الشيخ أبي عبد الله سيدي محمد بن بهلول فقيه ناحية زواوة ووليها وإمام وقته في العلم والصلاح، وكذلك عن الشيخ الفقيه المعروف بالبودخيلي وغيرهم، ثم رحل إلى فاس حاضرة المغرب العلمية فأخذ عن علمائها وخاصة النجم اللامع الشيخ سيدي عبد القادر بن علي بن أبي المحاسن يوسف الفاسي

 
 رحلاته في طلب التصوف واتصاله بالقطب المربي

بعد أن تضلع الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد رضي الله عنه في اللغة وآدابها، وأتقن علوم الشريعة برمتها، تشوق إلى علم التصوف، فخرج في طلب القطب ليجوب على نطاق أوسع أرجاء المغرب الكبير ويعمق دراسته الصوفية على يد عدة شيوخ بأشهر الزوايا في عصره، فأخذ أولا عن عمه الولي الصالح الشيخ أبي العباس سيدي أحمد المجدوب المعروف ب(الحمياني)،ثم عن الشيخ أبي العباس أحمد بن موسى السملالي، والشيخ موسى بن حسن الكرزازي، وبتلمسان أخذ عن الشيخ العارف بالله الحاج بن عامر الشهير بالشريف التلمساني الملقب بالعبد الوادي دفين باب كشوط. وبعيدا من هناك أخذ عن الشيخ العارف بالله المحقق الحاج أبي القاسم الجراري، وبغرب المغرب أخذ عن الشيخ العارف بالله المحقق كذلك أبي الحسن علي بن إبراهيم المشهور ببسط تادلة من بلاد فشتالة
ثم أشاروا عليه بوجود شيخ العصر وقطب الزمان بالمكان المعروف ب(قصر السهلي)على ضفة وادي كير وهو العارف بالله الشيخ القطب المربي الشهير أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد الرحمن السهلي الجرجري رضي الله عنه ومريد القطب الشيخ أبي العباس سيدي أحمد بن يوسف الراشدي الملياني وأحد مذابيحه السبعة المشهورين ووارث سره. قال عنه صاحب ( جواهر السماط): "الشيخ الولي الجليل النفاع الظاهر الحال القوي السلوك أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن دفين بلاد السهل بكير.."، فأخذ عنه ولزمه بالطاعة والخدمة، وأبان عن صدق تام في محبته، وإخلاص كامل في العمل وفق توجيهاته، تجلى ذلك بجلاء في تفوقه على جميع أقرانه في كل الاختبارات التي اختبره بها طيلة مدة مكوثه معه. اتخذ رضي الله عنه الخلوة وتعبد بإذن من هذا الشيخ الفحل الجليل في كثير من الجهات، فكانت له في كل ربوة عالية خلوة، وفي كل واد من القفار متعبدة وبركة جارية سرا وعلانية، إذ تعبد على طول ضفتي الوادي الغربي ووادي الناموس، وعلى القمم في القسم الأوسط من جبال الأطلس الصحراوي كجبل كسال وبونكتة وعنتر...وفي جبال لمناطق أخرى قرب مقابر مهجورة وفي مغارات وكهوف تحت الأرض. وفي هذا السياق ذكر له ابن مرزوق تسعة وتسعين خلوة على عدد أسماء الله الحسنى، وذكر له Octave Depont و Xavier Coppolani في كتاب " Les confréries religieuses musulmanes " مائة خلوة. وذكر له الأستاذ الشيخ أبو بكر حمزة في كتابه المذكور وصاحب كتاب: Les grandes familles du Maroc مائة وعشرة خلوة، ووافقهما على ذلك الشاعر الزجال محمد بلخير المعروف ب: " مادح سيدي الشيخ " في أشعاره الشعبية حيث قال في إحدى قصائد ديوانه المخصص لهذا الغرض
مولى عشر ميات روحانيــــة  *** والخلوات ميا وعشرة زايـــــد
مولى البركة الظاهرة وخفيـــة *** خبرني لله واش نعـــــــود

وقال في قصيدة أخرى

عبدت مائة والعشـــــــرة  ***  خلوات والفضايل بانـــــــو
من عاش بالفضل والقـــدرة  *** والواصلين هاك يكونـــــــوا

وذكرت له بعض الروايات الشفوية مائة وأحد عشرة خلوة، وقيل أن ذلك يطابق عدد الأولياء النائمين بفجيج . وذكر له الشاعر الزجال مصطفى الزيادي أكثر من ذلك فقال

أعبد سيدي كم من خلـــوات ***  خلاها له قاعدة تفكيـــــــر
لميا والعشرة بلا تنعــــات  *** زيادة والغير لا تحكيــــــــر
ويؤثر عنه رضي الله عنه كما أورد ذلك الأستاذ الباحث المقدم عبد الله طواهرية في كتابيه: " الحضرة " و " تذكرة الخلان " وكما يستقى أيضا من بعض الروايات الشفوية أنه حددها هو نفسه في مائة وواحدة فقال: " عبدت في ميات خلوة وخلوة زايدة وما حصلت على الفايدة حتى عطيت المايدة " وهو ما يفيد أنها أكثر من مائة كما أورد ذلك عنه العلامة السكوني في " المناقب" حيث قال رضي الله عنه: " ما دخل أحد مائة خلوة وأزيد يتعبد فيها منذ زمان أويس القرني إلى زماننا هذا سواي". وتراوحت المدد الزمنية التي رابط خلالها على العبادة في الخلوات كما جاء عن الأستاذ أبي بكر حمزة ما بين خمسة أيام وخمسة أشهر وخمس سنوات. وحسب " المناقب " و " الشعر الشعبي" و "الرواية الشفوية" أنها تراوحت كذلك ما بين عشرة أيام وستين يوما وسبع سنين
وفي آخر عهده بهذا الشيخ الرباني تمكن من الانفراد مرة أخرى بالتفوق في آخر امتحان وذلك أنه لما تخرج على يديه رفقة من كان معه من الأشياخ رحلوا جميعا عنه إلا الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد فإنه آثر البقاء معه للمزيد من الخدمة وقوفا عند حدود الأدب معه ومراعاة لحقه عليه، فبقي معه مدة إلى أن أعاد عليه البشارة مرة أخرى بأنه وارث سره والقطب من بعده، وأذن له في الرحيل إلى فجيج والتصدر للتربية هناك بعد وفاته فقال له قولته المشهورة
ليا أنت بغيت العفس والدفس..... . واقشيع الزنــــادي
******* أقعد معايا في بــــلادي
وليا أنت بغيت العز والكنـز.......وركوب لعيـــــــادي
********* سير لفجيج غــــادي

   إستقراره بفجيج وتأسيسه الزوايا هناك وتصدره للتربية
غادر الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد قصر السهلي وهو يحمل بشارة شيخ الطريقة على هدي السلسلة الشاذلية متوجها إلى الجنوب الشرقي المغربي، فاستقر أولا بالمغرار التحتاني غير بعيد من العين الصفراء، ثم تركها و مر بالمشرية، ثم عين ماضي، ثم تاسلا بتوات ففجيج التي كانت آنذاك مركزا للإشعاع العلمي والصوفي نظرا لما كانت تزخر به من الرخاء الاقتصادي، فأخذ استقراره بها لأنه كان قد اتخذ لنفسه في بستان الشرفاء الجمالين (أولاد معلى) خلوته سماها "العباد
"تيمنا بعباد الشيخ القطب سيدي أبي مدين الغوث دفين تلمسان وهو أحد شيوخ سلسلته وأحد أوتاد المغرب. وفي هذه المنطقة المطلة على قصر زناكة آن أوان ظهوره حيث أسس أول زاوية له سماها باسم خلوته المذكورة "العباد" وكان ذلك بعد وفاة شيخه وعمدته في الطريق الشيخ سيدي محمد بن عبد الرحمان السهلي رضي الله عنه بسنة 968ه. ولما تكاثرت عليه وفود المريدين من ساكنة قصور فجيج ومن الأعراب البدو الذين كان لأوائلهم انتماء طرقي لجده الشيخ سيدي سلمان بن أبي سماحة في زمانه، اضطر إلى تأسيس زاوية ثانية في الفضاء الواسع الشامل شرق الحمامين لمنطقة أجدل سماها(سهلي) تبركا بشيخه المذكور وذلك في أواخر القرن العاشر الهجري. وظل رضي الله عنه يرأس الزاوية(العباد) وفرعها بأجدل والتي أصبح لها في ذلك الوقت إشعاع علمي وصوفي كبير أدى لما يقرب من قرن من الزمن إلى خفوت صوت الزوايا هناك
وقد ساعد على ذلك ازدهارها ما كانت تزخر به من موارد عيش عريضة، إذا كان لها ثمانون جنانا، وستون خروبة ماء، وثمانية عشر ناقة خاصة للتموين، وطاحونتان مائيتان على ساقية تزدارت وفرقة من الخيول، وفرقة من العبيد، وممتلكات أخرى في بعض الواحات كبساتين بني ونيف. كما كانت له رضي الله عنه فتوح في كل أرض من الصحاري بحيث كانت تأتيه القبائل التي تخدمه في كل عام وفي المناسبات بالهدايا والأعطيات من الأموال والأكباش والنوق والحبوب والتمور والزبدة والعسل. هذا بالإضافة إلى سهمه في الغنائم أثناء جهاده ضد المحتل الإسباني، وكذا الامتيازات المادية والمعنوية التي أنعم بها عليه ملوك الدولة السعدية كظهائر التوقير والاحترام التي أسقطت عنه كل التكاليف وحول بموجبها بعض ما كان يدفعه أهل المنطقة إليه عوضا عن خزينة الدولة. كل ذلك أنشأ منه زاوية كافية، بل أكبر زاوية في المنطقة وأحد أغنى مراكز التصوف في المغرب، الأمر الذي أهلها لاستقطاب كل القبائل العابرين للسبيل، وبالتالي افتتاح فروع أخرى لها في الجنوب والشمال وفي الداخل وعلى السواحل في المدن والقرى على السواء. ومن هذه الزوايا ما هو قائم إلى اليوم كزاويته بفاس، وتحديدا بالمدينة البيضاء أو العليا وهي ما يعرف اليوم بفاس الجديد، وزاويته بالجامع الكبير بطنجة، وهي الآن في حوزة التيجانيين، وزاويته قرب الجديدة، وتحديدا بمولاي أبي شعيب الرداد، وزاويته بناحية ورزازات، وزاويته التي تحمل إلى اليوم اسمه، وتسمى بها إحدى جماعات دائرة القصيبة بعمالة بني ملال، وهي "زاوية الشيخ"، وزاويته بمراكش بحومة سيدي محمد بن صالح، وغيرها في الأقطار المغاربية

 أدوار الزاوية الشيخية خلال العهد السعدي في الميادين الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعي 

كان للزاوية الشيخية على عهد السعديين نشاط جد مكثف وخاصة على عهد الملوك الثلاثة : المولى عبد الملك والمولى أحمد المنصور والمولى زيدان، فنظرا لما عرف عن مؤسسها الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد من علم غزير، ونظرا للأعداد الهائلة أيضا من الطلبة والزوار الوافدين عليها من مختلف الجهات، فقد رتب لها مجالس من كل فن، إذ أنه كان يقرئ أربعة عشر فنا من فنون العلم الظاهر. ومما يدل دلالة قاطعة على بلوغه الغاية القصوى في الإحاطة بعلوم الشريعة برمتها إلى حد التمكن من الاجتهاد، ويشهد كذلك شهادة دامغة على أنه كان أعلم أهل زمانه على الإطلاق اختياره من قبل سلطان المغرب المولى زيدان لتولي الإفتاء حيث طلب منه استصدار الفتاوى في القضايا الشائكة، ومن ذلك على سبيل المثال نص الفتوى التي أصدرها في ربيع الثاني من عام 1016 هجرية الموافق 1607 ميلادية
 الجانب الصوفي: كانت للشيخ رضي الله عنه كذلك مكانة جد عالية، بل متفردة في علم التصوف، إذ كانت له اليد الطولى في طريقة التربية من تلقين الذكر وإلباس الخرقة وترقية المريدين، واليد البيضاء في العلوم اللدنية وأخبار الصوفية. ومما لا يدع مجالا للشك في تضلعه في هذا المضمار بيانه لطريقة الجماعة في ذلك كله بالدليل والبرهان، وانتقاده للمتطفلين على الميدان في الرسالة الجوابية التي بعث بها إلى السلطان السعدي مولاي زيدان والتي جاء فيها: "....وطريقة أهل الجماعة في ذلك أن يصافح الشيخ ثم يأخذ الفقير يخلو به ويعلمه سورة الطريق وما يترتب عليها ...ثم يغتسل وينوي أنه خرج عما كان فيه من سوء أعماله وأقواله ...ثم يضع يده اليمنى فوق رأسه أنه شريك في التوبة لاستوائهما في أمر الله تعالى ... قالوا، ويغمض عينيه ويسكت ساعة لتجتمع همته لقوله عليه السلام: " طوبى لمن جعل همه هما واحدا" ثم يتعوذ ويبسمل ويقول استغفر الله العظيم ثلاثا، ثم يقول بعد الثالثة وأتوب إليه، ويسأله التوبة والتوفيق لما يحبه ويرضاه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول الحمد لله رب العالمين. ويتبعه المريد في ذلك كله حتى يصرفه الشيخ، وإذا شاء ذكره مشايخه وإسناده. قالوا كذلك يفعل في تلقينه الذكر ولبس الخرقة، ثم يؤمر أن يلتزم التقوى والطاعة واجتناب المخالفة والبحث عما فيه رضاء الله تعالى تصريحا وتلويحا ... وأما الأوائل من القوم لم تكن لهم فيها رتبة في المشيخة ... وإنما كانت الصحبة واللقاء فكان الأدنى إذا لقي الأعلى استفاد منه ... ثم جاء بعد قوم حرفوا الأمور وخبطوا خبط عشواء في متراكم الظلام فضلوا وأضلوا نسأل الله السلامة
وقصيدتاه " الياقوتة" و"الحضرة"، أو ما يسمى أيضا بالياقوتتين الكبرى والصغرى إلى جانب رسالته هذه تشهد بعلو كعبه في العلم والتصوف إذ ضمن كلا منهما ما يعين المريد ويرد الشارد، وأسس فيها من علم الرشاد ما يضيء به الطريق لأهل السداد، ويكبح به عناد الحساد. وفي الياقوتة يقول
حفظت علوما لم تسعها سمـــــاؤها***ولم يبلغ انتهاءها أهل الإشــارة
فعمت وخصت في الأنام منارهـــــا***ومن حضرة القهار جل استمــدت
سرى سريانا سرنا في السرائـــــر***ولم يدركن بالأفهام المعــــــدة
فليس سوانا بعدنا بمعبـــــــــر***عن الحضرة العليا بأحلى عبـــارة

وفي هذا المعنى قال عنه مريده الشيخ أبو العباس أحمد بن بودي في تائيته التي رثاه بها والمسماة ب: "روضة الأحزان

فحاز مقاما هو أعلى المقامات  *** بقطب وغوث قل أمير الولايــة
ولي وقطب عالم ومحــدث  *** فقيه وغوث قل رئيس الفراسة

وقال عنه آخر
رأيت شيوخا من شعوب كثيرة  ***  فلم أر مثل شيخي عبد القـــادر

وحلاه الحاج سالم بن علي الشنطيط في الرسالة التي بعث بها إليه من تونس في أمر الجهاد، ب: "الشامل الكامل الزاهد الورع الناصح قطب الزمان وشمس المغرب وسلطان الأولياء " ووصفه آخر في تقييد ب: " الشيخ الأجل القطب الأكمل تاج الأصفياء وسلطان الأولياء وإمام أهل التمكين
بهذه المكانة العلمية والصوفية المتميزة طار ذكره في الآفاق وذاع صيته في مشرق المغرب وغربه وفي السودان ومصر والشام والحجاز. ومكنته هذه الشهرة من الاتصال بالملوك والوزراء وأصحاب المكانة المرموقة، فأخذ عليه ملوك المغرب السعديون في عصره: السلطان مولاي أحمد المنصور وابنه السلطان مولاي زيدان وربما السلطان مولاي عبد الملك قبلهما. وأشار إليه الأشياخ من كل جهة فتحززت زاويته بكوكبة من العلماء والفقهاء والأدباء الذين وردوا للتدريس بها ، وانحشرت على أبوابها الأعداد الهائلة من الزوار والمريدين و طلاب السر والطريقة والمجاهدة الذين جاؤوا للأخذ عنه والتماس البركة والدعاء الصالح، فكان له مريدون من كل الأصقاع من فجيج والمناطق المجاورة ومن فاس ومراكش وتلمسان ومنطقة سوس... والسودان وتونس وطرابلس الغرب و السواحل. وكان له مريدون كذلك حتى من الأتراك في الجزائر والإسبان المسلمين الذين كانوا يمدونه بالأخبار عن الكفار أثناء الجهاد ومن خارج إفريقيا في مصر والشام والحجاز

 الجانب الأدبي: اهتمت الزاوية الشيخية إلى جانب تلقينها لعلوم الشريعة وعلم التصوف بتدريس علوم اللغة وآدابها. وإن قصيدة الشيخ التائية المعروفة(الياقوتة) والشهيرة ب(السلسلة) إلى جانب قصيدته(الحضرة) وكلاهما من البحر الطويل لتدلان دلالة قاطعة على طول باعه في مجال النظم وبراعته في هذا الفن من الفنون الأدبية. كما أن رسالته في التصوف إلى السلطان زيدان التي هي واحدة من مجموعة من رسائله الضائعة لا تدع هي الأخرى مجالا للشك في أنه كان يجيد فن النثر إجادة تامة، ولا أجد ما أعبر به على هذه الرسالة أحسن من هذه العبارة التي علق بها عليها شكلا ومضمونا الأستاذ الباحث محمد بن علي بوزيان حيث يقول : ورسالته إلى الأمير زيدان تكشف عن رسوخ معرفته وإحاطته بأفانين القول وأساليب البيان

لقد كانت عناية الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد رضي الله تعالى عنه بطبقة المحتاجين من الفقراء و المعوزين و اليتامى و الأرامل و أبناء السبيل و المظلومين عناية خاصة، إذ جعل الاهتمام بحالهم الهدف الأساسي الأول من تأسيس زاويته الى جانب التلقين والتربية بوصفه شيخ فجيج كما نعت بذلك، أي الأب الروحي لأهل المنطقة. فقد وفر في زاويته من المئونة والزاد اللباس والمأوى ما خفف به من حدة بؤس و حرمان ومعاناة أفراد و أسر هذه الطبقة
قال ابن بودي في الروضة
فما لليتامى من ملاذ بعيــــده******وما للناس من ملجإ كالعصابــــة
ومن للسائلين مجيبا دعاءهـــم******وللفقراء من يقوم بحاجــــــة
ومن للأرامل وإطعام جائــــع******لباس عراة بعد شيخ الزعامــــة
لحجاج بيت الله يأتي تبسمــــا******ويظهر بشره وعند السقايـــــة
هذا إضافة إلى روح التضامن والتكافل الاجتماعي التي عمل على إشاعتها بين أهل المنطقة من خلال فرض غرامات مالية ذات طابع زجري على المخالفين وتوزيعها على الفقراء. وعلى سبيل المثال لا الحصر، الغرامة التي وقعها على جناحي قصر بني شريمن على إثر صراع احتدم بينهما والتي تقدر قيمتها بمائة وخمسين دينارا ذهبا ثم وزعها على ضعفاء القصر
ومن وجوه سعيه أيضا في الدفاع عن المظلومين وإنصافهم انتقاله إلى الجهات والقصور البعيدة المختلفة لرد ما غصب من الأموال والمنقولات والحض على صيانة أموال اليتامى ونصح المعتدي وزجره ورد الديون والرهون التي لم يتمكن مستحقوها من استيفائها، هذا بالإضافة إلى حث الحكام على التحلي بالنزاهة والعدل أثناء الفصل في المنازعات. يقول تلميذه القاضي الأجل محمد بن عبد الله الجراري
شغفت بحب الشيخ عبد القــــادر***** فأذهلني عن القضاء في الخصومة
يشير إلي بالقضاء غير مـــــرة*****ويأمرني بالفصل بين الخليقــــة

فاستطاع بتأثيره الروحي أن يحمي القيم والمقدسات الدينية، وأن يحق الحق ويبسط العدل في وسط كانت تسوده الفوضى والغلبة للقوي، إذ أصبح الحكم في كل النزاعات مهما كانت أسبابها. ولعل أبرز النزاعات التي كان يتدخل دائما لفضها تلك التي كانت تنشب بين أهل فجيج حول مسألة الماء. يقول رضي الله عنه في خطاب ألقاه على أهل فجيج بخصوص هذه القضية :"...ياأهل فجيج مالكم تتقاتلون في كل يوم ولا تنتهوا، وتقتلون بعضكم بعضا من غير شريعة ولا حق، فلا يحل لكم هذا، فانتهوا عن فعلكم هذا،إن انتهيتم نأتكم بساقية كبيرة لا تحتاجون إلى كراء الماء ولا من يربطها منكم في الليل ولا في النهار " .ولأجل ذلك نعت رضي الله عنه بقاضي الصحراء لكونه نجح إلى حد كبير في حماية القصور في الصحاري من مخاطر الأعراب اعتمادا فقط على الوعظ والإرشاد والكلمة الطيبة. قال ابن بودي في الروضة

ومن لي بإصلاح قبائل فتنــــة*****إذا أضرمت نار لقتل السفاهـة
ومن يأمر الأعراب ثم الأعاجــم***** بإصلاح ذات البين عن شأن فتنة

 الحقل السياسي
أمام المد الكبير والصيت العظيم لزاوية الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد اضطر أهل الرياسة والسلطان إلى الاستفادة من نفوذه فرامه السلطان مولاي زيدان في الملمات العظام حيث استنجد به في الحرب التي دارت بينه وبين أخيه محمد الشيخ بعد انهزام جيشه وإشرافه على الوقوع في الأسر، فكان تدخله رضي الله عنه سببا لنجاته من الهلاك. وقصده مرة أخرى لتثبيت دعائم ملكه فوقف إلى جانبه ضدا على ثورة ابن أبي محلي، وقدم له البيعة، وأمر أهل المنطقة بمبايعته في فجيج لما زاره بهان ففعلوا صبيحة يوم عيد الفطر من عام 1017هـ. التجأ السلطان زيدان إلى الزاوية الشيخية بوصفها الركيزة الأساسية المعتمد عليها من لدن الدولة السعدية اقتناعا منه بقوة نفوذها، وتأسيا بصنيع والده السلطان أحمد المنصور الذي أصبغ عليها إلى جانب باقي الزوايا الصبغة التمثيلية وشد عضدها بفجيج حتى أصبح نفوذها متوغلا إلى تخوم توات وتيكورارين جنوبا وسجلماسة غربا والأغواط شرقا وبني يزناسن شمالا، وهي بهذا النفوذ كانت تقوم بدور تأمين هذه المنطقة البعيدة من العاصمة مراكش المتاخمة في حدودها مع الأتراك.
كما حاولت طبقة الدجاجلة الأخرى الاستفادة من نفوذه في شخص زعيمها ابن أبي محلي الذي كان قد شاع في المغرب كله خبر هروبه من المشاركة في الجهاد في معركة وادي المخازن، كما كان أيضا قد شاع نبأ طرده من زاوية الشيخ محمد بن مبارك الزعري على إثر افتضاح أمره فيما يخص انتحال التصوف وزعم الانتساب إلى البيت العباسي وادعاء المهدوية طمعا في الوصول إلى السلطة. بهذه الصورة المشوهة حل ابن أبي محلي بالشلالة حيث كان يتواجد الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد مبعوثا إليه كما زعم من سجلماسة من طرف الشيخ أبي القاسم بن محمد بن عبد الجبار، وكان ذلك سنة 1008هـ، وهو موعد مرض السلطان أحمد المنصور واقتراب وفاته، مما يفيد أنه كان يتسابق مع الزمن للعثور على زاوية كبيرة تأويه وطريقة صوفية قوية يستغل نفوذها ونفوذ صاحبها لتحقيق مشروعه السياسي المتمثل في اغتصاب الملك بعد وفاة المنصور.إلا أن الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد بالإضافة إلى علمه بحالته هذه كوشف بدسيسته وخبث طويته، بل وبسوء عاقبته، فقطع عليه الطريق، وذلك بأن  " رفض مصاهرته " اعتراضا على ادعائه المهدوية و خروجه على طاعة السلطان السعدي مولاي زيدان. ولما أيقن بن أبي محلي بأنه لا سبيل إلى تحقيق طموحه السياسي على حساب زاوية الشيخ و نفوذه لما رأى من وقوف هذا إلى جانب السلطان ناصبه العداء جهرا وتفوه بأول فرية في حقه رضي الله عنه وذلك بأن ادعى مصاهرته والإقامة معه في داره وأنه حاول تسميمه مدشنا بذلك مسلسلا من الإختلاقات والأكاذيب في محاولة خجولة يائسة لصرف وجوه الناس عنه و جلبهم إلى صفه بهدف دعم ثورته ضد السلطان زيدان، هذه الثورة التي ناله فيها من قول الشيخ رضي الله عنه في الياقوتة

ومن ينسب إلينا غير مقولنــا ***** يصبه بحول الله أكبر عــــلة
وموت على خلاف دين محمـد ***** ويبتليه المولى بفقر وقلــــة
و بطش و شدة انتقام وذلــة ***** ويردعه ردعا سريع الإجابـــة
بلعن الإله باء من رام نسبــنا *****عنادا إلى فعل نكير و بدعــــة
كذاك الذي يرمي كريم جنابــنا ***** وينسب قدرنا لأقبح سيــــرة

حيث أصيب في نحره بأول رصاصة أطلقت في معركة كليز فأردته قتيلا، و قطع رأسه، ونهبت محلته، وفرت جموعه، وعلق رأسه مع عشرة من أصحابه على سور بمدينة مراكش لمدة (تزيد) اثنى عشر سنة
 
خروجه من فجيج وتأسيسه زاوية الأبيض واستمراره في الجهاد ضد الأسبان إلى حين استشهاده
أمام عدم انصياع أهل فجيج لحكم الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد بخصوص مسألة الماء، وأمام العقلية المتحجرة للأعراب البدو وتعصب الفقهاء إلى الظاهر وعدائهم الأعمى والسافر لأهل التصوف، ونظرا لإدراكه أيضا بأن نهاية الدولة السعدية قد قربت، وأن المنطقة ستكون عاجلا أم آجلا منطقة احتكاك وصراع، فقد آثر الابتعاد من فجيج إلى الحدود الشرقية، وقيل أنه كان ينوي الذهاب للعيش بعيدا في مكة المكرمة فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه في اليوم الرابع من فراقه فجيج فأشار عليه بالذهاب إلى الأبيض " الجزائر" وتأسيس زاويته هناك ومواصلة الجهاد، وأثناء طريقه مر على وادي الناموس وتلمسان ليستقر أخيرا بالحاسي الأبيض حيث أسس زاوية كبيرة وبنى أول قصر وهو القصر الغربي من القصور الستة المتواجدة هناك على بقعة أرضية تنازل له عنها شريف مغربي من ذرية الولي الصالح سيدي عبد القادر الجيلالي يدعى سيدي بودخيل وذلك في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي عشر الهجري، واستمر رضي الله عنه في القيام بشؤون هذه الزاوية والتي كان لها هي الأخرى على غرار باقي زواياه بفجيج وغيره باع طويل في تلقين العلوم ونشر الطريقة الشيخية في أوساط القبائل من مختلف الجهات، وبموازاة مع ذلك استمر كعادته في التصدي إلى المحتل الإسباني في عدة مناطق من الداخل والساحل كوهران ومليلية ومطغرة وتحديدا بتبحريت على الساحل الشمالي للمغرب وغيرها من الجهات، إذ رابط على الجهاد على فرسه المعروفة ب: (الشهباء) لمدة تزيد على عشرين سنة. وإبان الحروب والقلاقل التي نشبت بين أبناء المنصور حول السلطة، كان ينتقل في منطقة جبال القصور بين وادي الناموس والشلالة الظهرانية متخذا من تلك المنطقة قاعدة متقدمة لشن هجماته الجهادية ضد الإسبان. يقول ابن بودي في " روضة الأحزان
نهاره صائم وليله قائم ***  يجاهد في الكفار في كل ساعة
وفي إحدى هذه الحمالات العسكرية التي قادته إلى وهران وانتصر فيها كعادته على الاسبان، رجع متحاملا بخمس جراحات أصيب بها في جهات مختلفة من جسده من جراء ضربات سيوف وطلقات نارية، وبقي مدة أسبوع وإحدى زوجاته تتولى تمريضه بعد أن أمرها بكتمان أمر تلك الجروح إلى أن توفي شهيدا في شرق قرية ستيتن. وحدد العياشي في (ماء الموائد) المكان بإنه في وسط الطريق بين كراكدة وأربا حيث توجد مزارة له  " الجزائر". وكان ذلك يوم الجمعة الثاني من شهر جمادى الأولى من عام 1025ه عن سن تناهز خمسا وثمانين سنة، وصلى عليه صهره  ونقل إلى الأبيض ودفن في اليوم الرابع هنا بوصية منه. وإلى يومنا هذا يعرف رضي الله عنه " بذي الروضتين " إذ له هذا القبر الذي بالفرعة المتوسطة داخل القصر الشرقي بالأبيض،وقبر آخر ظهر فيه جثمانه الشريف الطاهر في كرامة مشهورة بمقر زاويته شمال شرق الحمامين بمنطقة أجدل بفجيج، والحكاية على وضع القبرين وإنشاء الروضتين مشهورة ذكرها مريده العلامة الشريف سيدي أحمد بن محمد بن اعمر الفجيجي الذي رثاه بقصائد منها (العينية) (والقافية) الأولى من البحر الطويل والثانية من المتقارب، وقبراه معا بالأبيض وفجيج لهما حرمة عالية ومهابة ظاهرة وهمة كافية، وعليهما توقير الصالحين، وتعظيم العارفين، يزورهما الشريف والوضيع، يلجأ إليهما في جميع الأوقات وتقضى ببركتهما جميع الحاجات
 
ـ آثــــــاره

خلف الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد رضي الله عنه في فن الشعر قصيدتين من البحر الطويل إحداهما تسمى(الياقوتة) أو(السلسلة) وهي من المطولات التائية إذ يصل عدد أبياتها إلى مائة وثمانية وسبعين بيتا، وأخرى تسمى (الحضرة) وعدد أبياتها أربعة وعشرون وكلاهما في موضوع التصوف بالإضافة إلى قصائد ونتف شعرية في نفس الموضوع
وفي النثر خلف رسالة جوابية في التصوف أيضا بعث بها إلى السلطان السعدي زيدان وهي إحدى رسائله الضائعة بالإضافة إلى أقوال وحكم. كما تنسب له بعض المؤلفات إلا أنها لازالت مفقودة
كان الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد رضي الله عنه ينتمي إلى الجيل الشاب المجدد بالشمال الإفريقي آنذاك الذي خلده التاريخ من خلال الدور الريادي الذي اضطلعت به طريقته الصوفية المعروفة (بالشيخية) في ترسيخ الإسلام الحق وطرد المحتل الإسباني من المغرب، وخدمة المشروعية. ولم يتوقف هذا الدور بعد وفاته بل استمر على يد أنجاله منهم خليفته الولي الصالح سيدي الحاج أبوحفص و الولي الصالح سيدي عبد الحاكم و خاصة الولي الصالح القطب المجاهد البطل الشيخ أبي عمامة سيدي محمد بن العربي البوشيخي رضي الله عنه الذي كرس حياته للجهاد ضد المحتل الفرنسي وطرده من المناطق الشرقية للمغرب

ويحمل سيدي عبد القادربن محمد لقبه الشهير سيدي الشيخ الذي أصبح اسمه الشائع حتى أن حفدته تسمى بأولاد سيدي الشيخ ويعود سبب حمله لهذا الاسم الى كرامة شهيرة متواترة مفادها،أن امراة تلميذة للشيخ سقط ابنها ذات يوم في جب فنادت بأعلى صوتها:"يا القادر يا عبد القادر...." فاذا بشيخين يحملان معا اسم عبد القادر هبا لانقاذ الطفل أما شيخ المرأة فقد أعد يده من الأسفل قبل أن يسقط في الماء، وأما الشيخ سيدي عبد القادر الجيلاني فسارع لإمساكه من الأعلى، ولما لاحظ هذا الشيخ أن الطفل مستقر في يد شيخ آخر علم أنه يشاركه في الإسم، فتوجه له بالقول:" ميز إسمك عن إسمي يا شيخ." علما منه أنه لا يستطيع القيام بإغاثة من هذا القبيل إلا شيخ كامل، فأجابه سيدي عبد القادر بن محمد:" هو ذاك يا شيخ من الآن فصاعدا سأحمل إسم الشيخ الذي شرفتني به." وهكذا تمت له الشهرة بهذا اللقب على حساب إسمه الحقيقي عبد القادر
من خلال هذه الكرامة نفهم أقوال الشيخ إذ يقول في الياقوتة مبينا حضوره في الشدائد وكذا قولته المتواترة :
" اخديمي انجيه طاير، وعبدي انجيه غاير، وولدي انجيه ساير."    
وفي ختام هذه الترجمة المباركة نعترف بعجزنا الكبير عن الإحاطة بالتعريف ولو ببعض جوانب الشخصية العظيمة لشيخنا وقدوتنا الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد رضي الله عنه، ولعل ما يعوضنا عن ذلك ويسلينا أيضا قول العلامة أحمد بن أبي بكر السكوني في
 تقوية إيمان المحبين والمصدقين. عن بسطه وأوصافه و مزاياه
 
ومن أوصافه رضي الله عنه ونفعنا به وبسيرته وما كان عليه من الأخلاق الحميدة كان رضي الله عنه تائبا ورعا زاهدا صابرا، صادقا حسن القصد، راضيا عن الله ورسله موحدا، عارفا، مداوم على الذكر، مفوضا ذا حياء حزينا يحب العلماء والشرفاء وأهل الدين، يتلقاهم بالإكرام والمحبة والبشاشة، ويتلقى القاطعين بالدعاء والإكرام والموعظة، حامدا لمولاه، خشعا راجيا، محسنا ظنه في مولاه، ذا أنس ذا رأفة ذا سخاوة، سخاوته تضرب بها الأمثال مداوما على الأعمال الصالحة، ذا خلوة ذا إيثار، متفكرا في أمور مولاه، ذا همة عالية، منعزلا عن الناس غالبا، ملازما للجوع، مداوما على الصوم، قليل النوم، وفي مثله يقول القائل

علم الشوق مقلتي سهر الليل ****** فصارت في غير نوم تراك

قنوعا بما قسم الله له، مؤدبا سهل الملتقى، ذا خلق حسن، ناصحا لله ولرسوله ولعامة المسلمين آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، ذا هيبة في النفوس موافقا للسنة، وكان رضي الله عنه أكثر كلامه لوائح، دون تصريح، أعجوبة زمانه ونخبة عصره وأوانه، ذا قبض ذا بسط، صاحب تمكين، أهان نفسه بالطاعة بل يتلذذ بها، وليس له حظ في الشهوات البطنية
وكان رضي الله عنه لا يتكلم في المسجد بكلام الدنيا، مهما أراد أن يكلم أحدا في أمر الدنيا خرج معه من المسجد فحينئذ يكلمه، وكان رضي الله عنه ممتثلا للأوامر، مجتنبا للصغائر فضلا عن الكبائر
وكان رضي الله عنه يحمل الأذى ممن آذاه ويتلقاه بالغفران والإحسان، ويكف الأذى عن الأقارب والأباعد والإخوان تاركا للدنيا ومحبتها، وأتته على رغم أنفها، ومال عن الركوب إليها
وكان رضي الله عنه يقدم الفقراء والغرباء على الأغنياء في المحبة والإنبساط، وكان جميل الصفات شريف الأخلاق، وكامل الأدب كثير التواضع دائم البشر، وافر العقل، وكان رضي الله عنه نافذ التصريف، مجاب الدعوة، ظاهر الكرامات، كثير الهيبة، وقد إنتهت إليه رئاسة هذا الشأن في زمانه، قد فتح الله عليه بمواهب قلبية، وأسرار ربانية إستفادها بالتوجه والعمل، وإرتقى فيها إلى غاية ما يؤمل، وإشتهر ذكره في الآفاق، وقصده الزوار من كل فج، وظهرت إمارات قربه من الله، وتلقاه الناس بالتبجيل والإحترام والرجوع إلى قوله والمصير إلى حكمه، ورمى بالأموال من كل جهة، وهرع إليه أهل السلوك من كل فج عميق، وأشار إليه الأشياخ من جميع الجهات، وأصبح الغرب يفتخر بنسبته إليه، والشرق يود لو إحتوت جهاته عليه، وبلاد " الأبيض" يرقص طربا لحلوله فيه
تالله لو لاحظه الشيخ الهواري لما قال في أهل المغرب مقالته، ولو جالسه الشيخ أبو مدين الغوث لقرت عينه به، لأجل أنه من ولادته " كذا " ، ولو أدركه الشيخ أحمد بن يوسف الملياني لفرح به لكونه من أحفاده، ولو تكاتب مع الشيخ زروق لعلم أن له حظا في العلوم من كتابته، ولو لازمه الشيخ الشبلي لتيقن أنه تمكن في ولايته، ولو غزا مع الشيخ الجنيد لتبينت له شجاعته، ولو تعبد مع الشيخ أويس القرني لشهد له بالصبر وعدم القلق في خلواته، ولو مشى بين يدي الشيخ إبن مشيش لأفصح للناس بعلو منزلته وجلالته، ولو رأى كرمه وسخاءه الشيخ أبو العباس المرسي لدل الناس إليه لزيارته والتبرك به، ولو جلس في حلقة الشيخ أبي الحسن الشاذلي لقربه إليه بالبرور والمحبة ومعانقته، ولو إلتقى مع الشيخ أبي يعزى لبان له وظهر ما كتب على رأس قنته ، بل هو الذي قال في مثله القائل

حلف الزمان ليأتين بمثله ******* حنثت يمينك يا زمان فكفر

بالله لقد أحي طريق السلف، وزين جميع الخلف، فلو سمع به الشيخ القشيري لم يقل ذهب أهل التحقيق ولا نوه بدروس معالم الطريق، ولو رآه الشيخ إبن أدهم لعده من أقرانه، ولو باشره الشيخ بشر لبشر به أهل زمانه، ولو تصافح مع الشيخ الفضيل لشهد له بفضله، ولو تكلم مع الشيخ الثعالبي لعلم أنه على النهاية في الإتباع، من قوله وفعله، ولو عاصره الشيخ السري السقطي لحض الناس على إسراع السرى إليه، ولو عرضت أحواله على الشيخ أبي يزيد لزاد في الثناء عليه، معارف الشيخ معروف تنشق من عرفه، ولطائف الشيخ ذي النون تشتمل من شمائل لطفه، موارد وإراداته صافيات المنهل، ومنازل منزلاته كل ربع منها آهل، وشاهد مشاهداته مشهورة الدلائل، فبدايته نهاية، ونهايته تقصر عنها الغية، ولو تتبعت مناقبه لأطلت ولو طولت في ذلك لتطولت ولكن وصفت منها ما وسع عقلي ونزرا مما أحاط بصري ونقلي، وأنى لي بدرك معاليه.والإحاطة بوصف مقامه، لكن طلوع الشمس من المشرق وغروبها من المغرب لا  . يفتقران الى دليل، والماء البارد والسخون يميز بينهما كل
عاقل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق